الجغرافيا تحكمنا جميعا
قيل ان الانسان يولد جغرافيا بالفطرة ، و يقتل الحس الجغرافي عنده عندما يدرس الجغرافيا كمعلومات منضدة في الكتب . ودليلهم على ذلك حرص الطفل الرضيع على استكشاف غرفة نومه اولا ، بكل زواياها و مكامنها ، واستغرابه من كل غريب وغير مألوف لديه ، ثم انتقاله عندما يتعلم الزحف و المشي لاستكشاف الغرف الاخرى في المنزل ، وبعدها الجيرة واصدقاء الاهل . و حيثما يحصر تعلم الانسان للجغرافيا بقاعة الدرس و الكتاب المنهجي ، حينها تنتحر الجغرافيا كعلم وتتبقى منها معلومات عامة لغرض النجاح في الامتحان لا غير .
والان ، كيف يمكن ان يستوعب الشخص الجغرافيا كعلم حياتي يدرس نهر الحياة دائم التدفق ، سواء اكان طالبا دارسا لها ام لا ؟ الامر بسيط جدا ، ولكنه يحتاج الى جهد ذاتي بسيط . فلكل شخص منا خريطة ذهنية للمدينة \ القرية \ المحلة التي يقطنها ، و لهذه الخريطة ابعاد مكانية – اجتماعية – عمرانية نسجت من خلال خبرة ذاتية او مكتسبة (منقولة من الاخرين) . اليست هذه الخريطة جغرافيا عملية ذاتية ؟ الا يتطلب الامر في كثير من الاحيان والحالات معرفة خريطة المنطقة \ المكان الذي سنذهب اليه (مهما كان السبب) ؟ فجغرافية المكان تحدد سلوكنا اليومي فيه ، شئنا ام ابينا . هل يمكن ان نستغني عن الخريطة في عصر GPS خصوصا ؟ ومع انفتاح العالم و حركة السياحة الواسعة المساحة و الميادين ، الا نعتمد كوكل و يو تيوب لمعرفة بعض الشيئ عن جغرافية الاماكن التي نفكر في زيارتها ؟ هل يمكن ان نستغني عن الجغرافيا كمعلومات في حياتنا اليومية ؟ ونحن نمارسها يوميا بدون تفكير او قصد مسبق ؟ انها مترسخة بعمق في اللاوعي ، لانها حفرت منذ الصغر . الجغرافيا تحكمنا جميعا حقيقة لا مفر منها .
الحديث الان مع معلمي ومدرسي مادة الجغرافيا ، (مقترح ممارسات عملية وتمارين بيتيه لمادة الجغرافيا للتلاميذ والطلبة) ، ولا ضير من قيام الاخرين بمثل هذه الممارسات ، طلبا للعلم والادراك الموضوعي للجغرافيا وطبيعتها . لنبدأ من جغرافية المنزل الذي نعيش فيه . الجغرافيا مبنية على معلومات عن الموضع و الموقع . موضع المنزل يشمل : مساحته ، عدد الغرف فيه ، تنظيمه المكاني (الخريطة) ، الخدمات التي يحتويها (مطبخ ، حمام ، صالة ، حديقة ، …. الخ ) ، التباين المكاني والزماني لدخول اشعة الشمس ، التباين المكاني و الزماني للتهوية واثر ذلك على عيشنا فيه صيفا وشتاء . وفي الجانب البشري ، ديموغرافية ساكنيه : العدد من حيث الجنس والعمر و المهنة ، الحالة الزواجية ، الصلة بين ساكنيه ، ملكية المنزل . ولنبق مع المنزل ، ولكن لنقارن بين وضعه الحالي (طبقا للمعلومات المطلوبة آنفا) وما كان عليه الامر قبل عشر سنوات . يضاف الى ذلك معلومات عن تاريخ البناء ومادته ، عدد طوابقه ، طراز البناء ، والتغيرات العمرانية التي اجريت خلال هذه المدة فيه .
وما يتعلق بالموقع : هل المنزل على شارع عام ؟ ام فرعي ؟ في وسط الشارع ؟ ام ركن ؟ هل الشارع سكني صرف ام تجاري ؟ ام مختلط ؟ وهل هناك قطع اراض لم يتم بنائها بعد ؟ او منازل مهدمة ؟ ما موقع المنزل من مركز المدينة ؟ من اطرافها ؟ من طرق النقل الرئيسية ؟ هل طراز البناء في الحي السكني متشابه ام ان هناك تنوعا وتباينا (والى اي مدى) : في تاريخ البناء ؟ في الطراز ؟ في المساحة ؟ هل هناك تجانس بشري من حيث المستوى الاقتصادي – الاجتماعي لساكني الحي السكني ؟ هل هناك مشاكل ، ولو طفيفة ، بين سكان الحي السكني ؟ ما هي طبيعة الخدمات المجتمعية (مدارس ، مراكز صحية ، ماء ، كهرباء ، مجاري ، تبليط شوارع ، نقل ، الامن والاستقرار، وغيرها )، المتوفرة في الحي السكني ؟ وما مدى كفايتها العددية وكفائتها المهنية ؟
وايضا لنستشف الحال قبل عشر سنوات ونؤشر مسار التغيرات العمرانية و السكانية والخدمية في الحي السكني . وضروري جدا ان ندرس الحراك السكني (دخول وخروج القاطنين في الحي السكني) ونسبة ملكية العقار خلال عقد من الزمان لنؤشر موقع الحي السكني من دورة حياته ، ونستشف ما يمكن ان يكون عليه الحال خلال العقد القادم . فالجغرافيا تربط الحاضر بالماضي لتستوعبه وتفسره ، ولتؤشر ملامح المستقبل القريب على ضوء ذلك ، في عالم دائم الحركة وبجميع الاتجاهات والمسارات . فاي شيئ مرتبط بكل شيئ ، ماض وحاضر ، قريب و بعيد .
هذه هي الجغرافيا ، بمقياس صغير جدا (حي سكني) ، في الجانب البشري حصريا ، والامر ياخذ مساحة اكبر واعمق عندما ندرس الجغرافيا على مستوى : المدينة ، الاقليم ، الدولة ، العالم . تدخل هنا ميادين كبيرة و مؤثرة جدا : طبيعية ، اقتصادية ، سياسية . لا مهرب من الجغرافيا لاننا اسيريها ، نهرب من مكان ما لننتقل الى مكان اخر ، من جغرافية الى اخرى ، قد تبدو مختلفة بدرجة كبيرة ، ولكنها تبقى جغرافية رغما عنا . وعلينا في جميع الاحوال اسكتشاف المكان (القديم والجديد) لنرتب سلوكياتنا و حياتنا اليومية طبقا لجغرافيته و تكيفنا معها ، فالجغرافيا تحكمنا جميعا .