الابعاد المكانية للتطورات التقنية
منذ بدء الخليقة والانسان يسعى الى تكييف البيئة التي يعيش فيها وتنظيمها بما يتناسب مع متطلبات حياته والمستجد من تقنيات عصره . و لمتطلبات الانسان و التقنيات التي يستخدمها الاثر الكبير على سلوكه ، ولسلوكه بصمات على المكان ، (بشكل مباشر وغير مباشر) وعلى مختلف المقاييس والمستويات (الغرفة ، المنزل ، الحي السكني ، المستقرة ، الاقليم ، الدولة ، والعالم) . يستطرد هذا المقال اثر بعض التقنيات التي اعتمدها الانسان منذ القديم على التنظيم المكاني لاستعمالات الارض في المدينة ، اضافة الى الاشارة الى ما له علاقة بالمكان والدراسات المكانية .
عرفت المستقرات القديمة بشكلها الدائري ، و فسر ذلك بميل الانسان الى الحصول على اقصى المنافع باقل جهد ممكن (للتنقل) ، اضافة الى ان الشكل الدائري (القوس) يكون اكثر متانة و قدرة على مقاومة الضغوط الخارجية (في الحروب) . وبما ان مركز الدائرة مخصص للحاكم ، فان الحلقات المتتالية له تشغل حسب درجة القرب من الحاكم . وكانت الاسواق ، وعامة الناس في الغالب خارج الاسوار . فاستعمالات الارض اخذت شكلا دائريا متراكزا . وفي العهود الاسلامية الاولى ، كان المسجد الكبير في المركز ، يجاوره قصر الخليفة و من ثم تأتي البطانة والحاشية وبعدها الرعية . وللحمامات العامة مكانة في تصميم المدينة الاسلامية ، و يتوزع السكان بين احياء المدينة على اساس الانتماء القبلي .
وفي عصر الصناعة الاول ، وبسبب كلف النقل العالية و عدد ساعات العمل الطويلة فقد اصبحت المصانع هي المركز حيث يتجمع حولها السكان و بجوارها تقام الاسواق وتتجمع الخدمات العامة . لم يستمر الامر طويلا ، فبسبب التطورات التي حدثت في وسائط النقل وتقنياته ، ونتيجة الاحساس المتزايد بأضرار دخان المصانع على صحة الانسان فقد تم الفصل بين مكان العمل ومكان السكن ، فأخذت المدينة شكلا جديدا ، وكذا طرز الحياة . من هنا برزت نماذج برجس وهومر هويت وغيرهم عن التركيب الداخلي للمدينة . فهنا بدأ الاستقطاب و التخصص في استعمالات الارض بالتبلور والوضوح ، وتعمق اكثر في النوع الواحد . فالاستعمال التجاري له فئاته الخاصة به (جملة ، مفرد ، غذائية ، اقمشة وملابس ، وغيرها) ، وكذا الاستعمال الصناعي ، أما السكني فقد اخذ نمطا اجتماعيا واضحا للعيان حيث توزعت الاحياء السكنية واتسمت طبقا لساكنيها من الفئات الاجتماعية و العرقية والاثنية وحتى المهنية. وقد رسمت خرائط المدن كموزائيك ، كلوحات تعرض تركيبها السكاني والاقتصادي . وشاع قول )) قل لي اين تسكن اقل لك من انت)) . كما صنفت بعض اماكن المدينة حسب مستوى الجريمة فيها ، وعد بعضها مناطق مشاكل ، والبعض الاخر مناطق محرومة من الخدمات العامة ، وهكذا . ومن هنا بدأ التخطيط على المستوى المحلي ، الاجتماعي والاقتصادي .
في هذه المرحلة ، وبسبب الفصل بين مكان كازينو اون لاين السكن عن مكان العمل ، وانتشار تقنيات التبريد و حفظ الاغذية ، وارتقاع المستوى المعاشي وشيوع ملكية وسائط النقل الخاصة فقد برزت دراسات تعنى بالسلوك الجمعي للسكان بين مختلف الاستعمالات (الاماكن) : عمل – سكن ، سكن – تسويق ، سكن – ترويح وتسلية ، وبعض الدراسات اهتمت بأساليب التسوق و الترويح و علاقتها بنوعية الاسرة ومستواها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي . بعبارة اخرى ، ركزت الدراسات على السلوك وعلاقته بالمكان ، والذي اصبح لاحقا احد مؤشرات التخطيط الحضري وابرز مفرداته .
نتيجة اتساع الرقعة الحضرية ، و الميل للسكن في الضواحي والحافات الحضرية – الريفية ، و لان عملية الاتساع هذه كانت في الكثير من الاحيان على حساب مستقرات صغيرة تابعة للمدن أدت الى أسرها وضمها اليها ، لذا تعددت النويات وتباينت في احجامها و ما تقدمه من تسهيلات تجارية و خدمية ، و التي اخذت شكلا هرميا (حسب نظرية الاماكن المركزية لكرستالر) . كما ظهرت الشوارع التجارية ، وتخصص البعض منها بالخدمات الصناعية (اصلاح العجلات مثلا)، او بمهنة معينة (شارع الاطباء مثلا) وهكذا . فالتوزيع النهائي مكاني جراء عمليات لا مكانية (استقطاب ، القوة الطاردة من المركز ، القوة الجاذبة للمركز) .
كرد فعل للأضرار الصحية الناجمة عن بيئة المدن الصناعية اتجه الكثيرون الى العودة الى الطبيعة ، والمطالبة بتحسين البيئة الحضرية . وبالاتجاه الى الطبيعة ودراسة عملياتها تشكلت مدارس فكرية تأخذ من الطبيعة ما له نظير في المدينة ، مدرسة شيكاغو البيئية على سبيل المثال . فقد نظر للمدينة ككائن حي ينمو ويمرض و يترهل ، وكل كائن (حي ام لا) يمر بدورة حياة ، ومعرفة خصائص كل مرحلة من مراحل دورة حياته تساعد في تخمين المتوقع في المرحلة اللاحقة . وبمعرفة دورة الحياة للاستعمال السكني مثلا ومتابعة عمليات التغلغل والانتشار والسيادة من قبل الاستعمالات الاخرى فيه تتغير المناطق السكنية تدريجيا ،
و تخطيطيا ايضا . ويكمل هذا ، من الناحية السلوكية ، معرفة الحراك السكاني واتجاه (عملية الفلترة) في المناطق السكنية . بعبارة اخرى ، تدرس المدينة كمنظومة متكاملة ، متفاعلة مع نفسها ، ومنفتحة على محيطها الخارجي . فأي شيء مرتبط بكل شيء .
اختلف سلوك التسوق طبقا لتوزيع الاستعمال التجاري في المدينة ، فعندما كانت تقنيات خزن المواد الغذائية بسيطة ، كانت المحلات التجارية متخصصة بسلعة معينة ، ومع تطور تقنية التبريد والاتجاه الى ان تكون المحال التجارية متنوعة البضائع ظهرت الاسواق الكبيرة super markets ، و الكبير جدا منها اتجه الى اطراف المدينة حيث المساحات الواسعة للخزن ولإيواء سيارات العملاء والزبائن . لقد تطور السلوك التسويقي الى ما يعرف (اشتري كل ما تحتاجه للبيت في مكان واحد) . ومع التوجه في البناء العمودي و التنافس التجاري فقد انتشرت مثل هذه الاسواق الكبيرة والعملاقة Malls في مختلف ارجاء المدينة . لقد اصبح هذا النوع من المراكز التجارية ميدانا ترويحيا ايضا . رافق ذلك الدعوة الى جعل الاحياء السكنية تحتوي ذاتيا ما تحتاجها من خدمات . وبهذا انتشر الاستعمال التجاري وبأحجام متباينة بين مختلف ارجاء المدينة . وعد البعض هذا من سمات مدن العولمة ومتطلبات توفير مستلزمات الحياة في مختلف ارجاء المدينة .
ومن آثار تقنيات الاتصالات المعاصرة على سلوكيات المجتمع المكانية هو الانفتاح على الاماكن الاخرى والتواصل معها ، و تشكيل مجاميع تنسجم مع بعضها البعض ومن اماكن مختلفة ، والانفصال ذهنيا عن مكان التواجد . وحتى عملية خزن المعلومات لم يعد لها مكان على الارض ، بل في غيوم افتراضية . فالمكان اصبح له معنى آخر ، وكذلك المجاميع البشرية والسلوكيات . وبتطور تقنيات التوقيع المكاني GPS و الاستشعار عن بعد و التحليل المكاني باعتماد نظم المعلومات الجغرافية بدأت مرحلة تحليل الامكانات الذاتية للمكان و اختيار المكان الانسب ، ورسم حدود النطاق المكاني للظاهرة او الحدث . ادى هذا الى التفكير الى تسليط الاضواء على اماكن مهجورة تعد الحياة فيها صعبة او مستحيلة . فالمكان الذي تراه العين هو ليس ما تراه تقنيات الاستكشاف المعاصرة . بعبارة اخرى ، ستؤدي التقنيات المعاصرة الى تغيير جذري في توزيع الاماكن وتسمياتها و سماتها . فكل شيء قابل للتغيير وباتجاهات يصعب ادراكها للوهلة الاولى ومن قبل من لا دراية له بالمستجدات و ما ورائها .